مختصر لتاريخ اللبان
كان الصراخ الهستيري للملك نيرون في روما يخترق صفوف جنوده وهو يأمرهم بأن يأتوا له بآلاف الأطنان من لبان (عمانا)
ليحرقه في مراسم جنازة خليلته بوبيه التي أنهى حياتها بعد عراك وخلاف نشب بينهم!
نعم كانت عُمان أو عمانا مثلما يطلق عليها الإغريق والرومان من أهم المراكز التجارية التي يحرصون على أن تصلها سفنهم مع سفن
الفراعنة والآشوريين والكلدانيين والعبرانيين،
ليحصلوا على ذلك اللبان المقدس والذي أصبح كالذهب الأبيض الفاخر
الذي كان يعبر عن ترف القصور والمعابد والجنائز الملكية في مصر وبابل وروما.
لقد كانت موانئ عُمان وتحديدا في ظفار بسمهرم والبليد وخور روري نشطة وثرية للغاية نتيجة تصديرها لأهم سلع العالم تداولا،
فالفراعنة مثلا كانوا يستوردون من عُمان كميات كبيرة جدا من اللبان كنوع من التقرب للآلهة،
كما أنهم يستخدمون اللبان في صناعة أجود أنواع العطور وبعض الأدوية أو مواد التحنيط التي كانوا يبدعون في ابتكارها،
ولقد وجدت في المقابر الفرعونية وتحديدا قبر توت عنج آمون على قطع كرات من الروائح والتي يعتبرها علماء الآثار قطع من لبان ظفار،
وقد أثبتت الآثار المكتشفة بأن معبد آمون بمصر الذي زاره الإسكندر المقدوني عام 331 قبل الميلاد يستورد لوحده سنويا من موانئ (أرض اللبان)
ما يقدر بـ 2159 جرة من البخور أو اللبان في القرن 12 قبل الميلاد! ،
في المقابل
كانت حضارات بلاد الرافدين هي الأخرى تستورد من عُمان اللبان من أجل نفس الأهداف وخاصة للتقرب
من الإله ، فنجد مثلا في النقوش الآشورية رسومات لحرق اللبان لإله الشمس مع وجود مباخر على هيئة أعمدة شاهدة في آثارهم،
كما أنهم أشاروا بأن العرب يقدمون الطيوب ( اللبان العماني) كنوع من الضرائب لملوك آشور في القرنين السابع والثامن قبل الميلاد،
وهو الحال ذاته مع الحضارة الكلدانية التي تستورد من ظفار اللبان سنويا وبكميات ضخمة لحرقها في بابل أمام مذابح الإله بعل.
فلا يمكن لحضارة أنذاك أن تقيم مراسم معابدها وجنائزها إلا وعُمان حاضرة بينهم بلبانها المقدس والمتفرد بالإضافة
إلى الذهب وأبرز صادراتها والتي سأشير إليها لاحقا.
تاريخ اللبان
لقد كان الوصول إلى أرض اللبان والتي تحتكره عُمان ومنذ ما قبل الميلاد حلم يسعى إليه كل العظماء ومنهم الإسكندر المقدوني
، كما أن المؤرخين في تلك الفترة كتبوا الكثير من الأساطير عن ظفار من أمثال المؤرخ اليوناني (هيرودوتس 490 – 448 هـ ) في كتابه المشهور
تاريخ هيرودوتس والذي قال:«وبلاد العرب في نهاية المعمورة من الجنوب، فيها وحدها اللبان والمر والدارسين (القرفة) واللادن،
والحصول على هذه الأشياء يتطلب مصاعب كبيرة، فالثعابين الطائرة تهاجم من يقترب من أشجار البخور، وهذه الثعابين
صغيرة الحجم متعددة الألوان تقوم على حراسة أشجار البخور، والطريقة الوحيدة لإبعادها حرق الصمغ الذي يجلبه التجار
إلى اليونان فتهرب من دخانه، وحينما يذهب العرب لجمع خيار شنبر يغطون وجوههم عدا عيونهم بجلود الثيران»!
أمام مؤلف كتاب ( الطواف حول البحر الإريثري) وهو ليوناني مجهول عاش في القرن الأول للميلاد فقد أشار في توثيقه
لمكان تواجد اللبان لدينا .
فكتب :«وتنحسر الأرض بعد ميناء قنا (حضرموت) شرقا في شكل خليج يدعى (سكاليتيس) حيث توجد أرض اللبان (ظفار)،
وهي أرض جبلية وصعبة العبور وتعلوها الغيوم، وتتخللها الأشجار الكثيفة التي تنتج اللبان، وتلك الأشجار ليست بالكبيرة ولا الطويلة».
وأضاف وهو يشير إلى اللبان المحمي بصرامة من قبل الملك الذي يشرف على تصديره شخصيا كأغلى سلع العالم أنذاك
في ميناء (سمهرم) والتي كان يطلق عليها اسم (موشا):«بعد رأس (سياجروس) شرقا، ينفتح خليج عُمانا، وإلى الشرق من هذا الخليج
، يأتيك ميناء تجاري يستقبل كل ما ينتجه البر الداخلي من اللبان يسمى (موشا) تتردد عليها السفن القادمة بانتظام من (كانا)،
ويصدر من هذا الميناء اللبان الذي ينتجه البر الداخلي ويكوم في أكوام ظاهرة على طول الساحل ودون حراسة كأن المكان في حماية الآلة،
ولا يمكن شحن أي كميات منه إلا بإذن الملك،
وإذا شحنت حبة منه دون إذن الملك خلسة في أية سفينة فإنها لا تستطيع مغادرة الميناء».
لذا لن نستغرب أبدا أن نرى الإغريق والرومان يصرفون ببذخ لشراء وحرق اللبان العماني رغم ثمنه الباهض في جنائز موتاهم كتعبير عن الحب والامتنان
وقمة الإكرام وقدسية الحدث، حيث أشار المؤرخ الروماني المعروف (بليني) المولود سنة 23 للميلاد بأن الإمبراطور الروماني (نيرون)
قد أحرق كميات كبيرة من اللبان في جنازة خليلته (بوبيه)، كما أنه انتقد ذلك الترف الفاحش في استخدام اللبان بجنائز الموتى بشكل عام فقال
:«دعونا نضع في الحساب العدد الكبير من الجنائز التي تشيد كل عام في جميع أنحاء العالم وتلك الأكوام من البخور التي تحرق لتولد رائحة زكية على شرف أجساد الموتى
، وذلك يعد من رفاهية الإنسان الذي يتباهى بها حتى عند الموت».
المرجع:
الموانئ العمانية ومساهمتها في التجارة الدولية في ضوء الكتابات اليونانية والرومانية من القرن الثالث ق.م إلى القرن الثالث الميلادي،
أ.د.أسمان سعيد الجرو، الطبعة الأولى 2011م، النادي الثقافي بمسقط – سلطنة عُمان